الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
قال القاضي أبو محمد: والذي استقريت في لفظة العباد، أنه جمع عبد متى سيقت اللفظة في مضمار الترفيع والدلالة على الطاعة دون أن يقترن بها معنى التحقير وتصغير الشأن وانظر قوله تعالى: {والله رؤوف بالعباد} [البقرة: 207] [آل عمران: 30] و{عباد مكرمون} [الأنبياء: 26] {يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله} [الزمر: 53] وقول عيسى في معنى الشفاعة والتعريض لرحمة الله {إن تعذبهم فإنهم عبادك} [المائدة: 118] فنوه بهم، وقال بعض اللغويين: إن نصارى الحيرة وهم عرب لما أطاعوا كسرى ودخلوا تحت أمره سمتهم العرب العباد فلم ينته بهم إلى اسم العبيد، وقال قوم بل هم قوم من العرب من قبائل شتى اجتمعوا وتنصروا وسموا أنفسهم العباد كأنه انتساب إلى عبادة الله، وأما العبيد فيستعمل في تحقير، ومنه قول امرئ القيس: [السريع]
ومنه قول حمزة بن عبد المطلب: وهل أنتم إلا عبيد ومنه قول الله تعالى: {وما ربك بظلاّم للعبيد} [فصلت: 46] لأنه مكان تشفيق وإعلام بقلة انتصارهم ومقدرتهم، وأنه تعالى ليس بظلاّم لهم مع ذلك، ولما كانت لفظة العباد تقتضي الطاعة لم تقع هنا، ولذلك أنس بها في قوله تعالى: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم} [الزمر: 53].قال الإمام أبو محمد: فهذا النوع من النظر يسلك به سبل العجائب في ميزة فصاحة القرآن العزيز على الطريقة العربية السليمة، ومعنى قوله: {كونوا عبادًا لي من دون الله} اعبدوني واجعلوني إلهًا.واختلف المفسرون إلى من هي الإشارة بقوله تعالى: {ما كان لبشر} فقال النقاش وغيره: الإشارة إلى عيسى عليه السلام، والآية رادة على النصارى الذين قالوا: عيسى إله، وادعوا أن عبادته هي شرعة ومستندة إلى أوامره، وقال ابن عباس والربيع وابن جريج وجماعة من المفسرين: بل الإشارة إلى محمد عليه السلام. اهـ.
وقال حمزة بن عبد المطلب: وَهَلْ أنْتُمْ إلاَّ عَبِيدٌ لأبِي؟ ومنه قوله: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} [فصلت: 46] لأنه مكان تشفيق وإعلام بقلة أنصارهم ومقدرتهم، وأنه- تعالى- ليس بظلامٍ لهم مع ذلك. ولما كانت العباد تقتضي الطاعة لم تقع هنا، ولذلك أتى بها في قوله تعالى: {قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ} [الزمر: 53] فهذا النوع من النظر يسلك به سبيل العجائب في فصاحة القرآن على الطريقة العربية.قال أبو حيّان: وفيه بعض مناقشة، أما قوله: ومن جموعه عَبِيد وعِبِدَّى، فأما عبيد، فالأصح أنه جمع، وقيل اسم جمع. وأما عِبِدَّى فإنه اسم جمع، وألفه للتأنيث.قال شهابُ الدّينِ: لا مناقشة، فإنه إنما يعني جَمْعًا معنويًّا، ولا شك أن اسمَ الجمع جَمْعٌ معنويٌّ.قال: وأما ما استقرأه من أن عِبادًا يساق في مضمار الترفُّع والدلالة على الطاعة، دون أن يقترن بها معنى التحقير والتصغير، وإيراده ألفاظًا في القرآن بلفظ العباد وأما قوله: وأما العبيد، فيستعمل في تحقيره- وأنشد بيت امرئ القيس، وقول حمزة: وهل أنتم إلا عبيد أبي، وقوله تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} [فصلت: 46] فاستقراء ليس بصحيح، إنما كثر استعمال عباد دون عبيد لأن فعالًا في جمع فَعْل غير الياء والعين قياس مُطَّردٌ، وجمع فَعْل على فعيل لا يطَّرد.قال سيبويه: وربما جاء فعيلًا وهو قليل- نحو الكليب والعبيد. فلما كان فِعَال مقيسًا في جمع عبد جاء عباد كثيرًا، وأما {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} [فصلت: 46] فحسَّنَ مجيئه هنا- وإن لم يكن مقيسًا- أنه جحاء لتواخي الفواصل، ألا ترى أن قبله: {أولئك يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} [فصلت: 44] وبعده {قالوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ} [فصلت: 47] فحَسَّنَ مجيئه بلفظ العبيد مؤاخاة هاتين الفاصلتين. ونظير هذا- في سورة ق- {وَمَا أَنَاْ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} [ق: 29] لأن قبله: {وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بالوعيد} [ق: 28]. وبعده: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امتلأت وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ} [ق: 30] وأما مدلوله فمدلول عباد سواء، وأما بيت امرئ القيس فلم يُفْهَم التحقير من لفظ عبيد إنما فُهم من إضافتهم إلى العصا، ومن مجموع البيت. وكذلك قول حمزةَ: هل أنتم إلا عبيد؟ إنما فهم التحقير من قرينة الحال التي كان عليها، وأتى في البيت وفي قول حمزة على أحد الجائزين.وقال شهابُ الدينِ: رده عليه استقراءه من غير إثباته ما يجرِّم الاستقراء مردود، وأما ادِّعاؤه أن التحقير مفهوم من السياق- دون لفظ- عبيد- ممنوع؛ لأنه إذا دار إحالة الحكم بين اللفظ وغيره، فالإحالة على اللفظ أوْلَى.قوله: {لي} صفة لعباد. و{مِن دُونِ الله} متعلق بلفظ عِبَادًا لما فيه من معنى الفعل، ويجوز أن يكون صفة ثانية، وأن يكون حالًا؛ لتخصُّص النكرة بالوصف.قوله: {ولكن كُونُواْ} أي: ولكن يقول: كونوا، فلابد من إضمار القول هنا، ومذهب العرب جواز الإضمار إذا كان في الكلام ما يدل عليه، كقوله تعالى: {فَأَمَّا الذين اسودت وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [آل عمران: 106] أي: يقال لهم ذلك.والربانيون: جمع رَبَّانِيّ، وفيه قولان:أحدهما: قال سيبَوَيْهِ: أنه منسوب إلى الرَّبّ، يعني كونه عالمًا به، ومواظبًا على طاعته، كما يُقال: رجل إلهيّ إذا كان مقبلًا على معرفة الإلهِ وطاعتِهِ، والألف والنونُ فيه زائدتان في النسبِ، دلالةٌ على المبالغة كرقباني وشَعراني، ولِحْيَاني- للغليظِ الرقبةِ، والكثيرِ الشعرِ، والطويلِ اللحيةِ- ولا تُفرد هذه الزيادة عن النسب أما إذا نسبوا إلى الرقبة والشعر واللحية- من غير مبالغة: قالوا: رَقَبيّ وشَعْرِيّ ولحويّ.الثاني: قال المُبَرِّدُ: الربانيون: أرباب العلم، منسوب إلى رَبَّان، والربان: هو المُعَلِّم للخير، ومَن يوسوس للناس ويعرِّفُهم أمرَ دينهم، فالألف والنون والتاء على زيادة الوصف، كهي في عطشان وريان وجوعان ووسنان، ثم ضمت إليه ياء النسب- كما قيل: لحيانيّ ورقبانيّ- وتكون النسبة- على هذا- في الوصف نحو أحمري، قال: [الرجز] وقال سيبويه: زادوا ألفًا ونونًا في الربانيّ؛ لأنهم أرادوا تخصيصًا بعلم الرَّبِّ دون غيره من العلوم، وهذا كما يقال: شعرانيّ ولحيانيّ ورقبانيّ.قال الواحديُّ: فعلى قول سيبويه الرباني منسوب إلى الربِّ مأخوذٌ من التربية.وفي التفسير: كونوا فقهاء، علماء، عاملين. قاله عليٌّ وابن عباس والحسنُ.وقال قتادةُ: حكماء، علماء وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس: فقهاء، معلمين.وقل عطاءٌ: علماء، حكماء، نصحاء لله في خلقه.وقيل: الرَّبَّانِيّ: الذي يُربِّي الناسَ بصغار العلم قَبل كِباره.وقال سعيد بن جُبَيرٍ: الرباني: العالم الذي يعمل بعلمه.وقيل: الربانيون فوق الأحبار، والأحبارُ: العلماء، والربانيون: الذين جمعوا مع العلم البصارة لسياسة الناس، ولما مات ابنُ عبَّاسٍ قال محمدُ بنُ الحنفيةَ: اليوم مات رَبَّانِيُّ هذه الأمة.وقال ابنُ زيدٍ: الربانيُّ: هو الذي يربُّ النَّاسَ، والربانيون هم: ولاة الأمة والعلماء، وذكروا هذا- أيضا- في قوله تعالى: {لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الربانيون والأحبار} [المائدة: 63] أي: الولاة والعلماء، وهما الفريقان اللذان يطاعان.ومعنى الآية- على هذا التقدير- لا أدعوكم إلى أن تكونوا عبادًا لي، ولكن أدعوكم إلى أن تكونوا ملوكًا وعلماء باستعمالكم أمر الله تعالى، ومواظبتكم على طاعته.قال القفال: يحتمل أن يكون الوالي، سُمِّي ربانيًّا؛ لأنه يُطاع كالربِّ، فنسب إليه.قال أبو عبيدة: أحسب أن هذه الكلمة ليست بعربيةٍ، إنما هي عبرانية، أو سريانية، وسواء كانت عبرانية، أو سريانية، أو عربية فهي تدل على الإنسان الذي عَلِمَ وعَمِلَ بما عَلِم، ثم اشتغل بتعليم الخيرِ.قوله: {بِمَا كُنْتُمْ} الباء سببية، أي: كونوا علماء بسبب كَوْنِكُمْ، وفي متعلق هذه الباء ثلاثة أقوالٍ:أحدها: أنها متعلقة بـ {كُونُوا} ذكره أبو البقاء، والخلاف مشهورٌ.الثاني: أن تتعلق بـ {رَبَّانِيِّينَ} لأن فيه معنى الفعل.الثالث: أن تتعلق بمحذوف على أنها صفة لـ {رَبَّانِيِّينَ} ذكره أبو البقاء، وليس بواضح المعنى، وما مصدرية، فتكون مع الفعل بتأويل المصدر، أي: بسبب كونكم عالمينَ، نظيره قوله: {اليوم نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ} [الجاثية: 34]. وظاهر كلام أبي حيان أنه يجوز أن تكون غير ذلك؛ فإنه قال: وما الظاهر أنها مصدرية، فهذا يوم تجويز غير ذلك- وفي جوازه بُعْد- وهو أن تكون موصولة، وحينئذ تحتاج إلى عائد وهو مقدر، أي بسبب الذي تعلمون به الكتاب، وقد نقص شرطٌ، وهو اتحاد المتعلَّق، فلذلك لم يظهر جعلها غير مصدرية. و{كُنْتُمْ} معناه أنتم كقوله: {مَن كَانَ فِي المهد صَبِيًّا} [مريم: 29] أي مَنْ هو في المهد.قوله: {تَعْلَمُونَ} قرأ نافعٌ وابنُ كثير وأبو عمرو {تَعْلَمُونَ} مفتوح حرف المضارعة، ساكن العين مفتوح اللام من عَلِم يَعْلَم، أي: تعرفون، فيتعدى لواحدٍ، وباقي السبعة بضم حرف المضارعة، وفتح العين وتشديد اللام مكسورةً، فيتعدى لاثنين، أولهما محذوف، تقديره: تُعَلِّمُونَ الناسَ والطالبين الكتاب.
|